
انعقدت قمة السلام بشرم الشيخ برئاسة الرئيس المصرى عبد الفتاح السيسى ونظيره الأمريكي، فى لحظة فارقة من تاريخ المنطقة والعالم، حملت فى طياتها دلالات سياسية وإنسانية، فقد جاءت القمة لتعيد إلى الذاكرة الدور التاريخى لمصر بوصفها عاصمة القرار العربي، وبوصلـة الشرق الأوسط، وصوت العقل فى أزمنة الاضطراب والانقسام.
وعلى أرض السلام فى شرم الشيخ، التى شهدت من قبل تحولات كبرى فى مسارات الصراع والتسوية، اجتمع عشرون زعيمًا عربيًا ودوليًا ليعلنوا من قلب سيناء رفضهم لدوامة الإبادة فى غزة، وتأكيدهم على حق الشعب الفلسطينى فى الحياة والكرامة والسيادة، وتمثل القمة حدثًا سياسيًا وإنسانيًا استثنائيًا عبر عن إرادة الشعوب العربية وتطلعاتها إلى إنهاء المأساة، وأعاد الاعتبار إلى فكرة السلام كقيمة إنسانية سامية تتجاوز الحسابات الضيقة والمصالح الآنية نحو أفق أرحب من العدالة والحرية والعيش المشترك.
وجاءت قمة شرم الشيخ تأكيدًا جديدًا على المكانة المحورية لمصر، ودليلًا على قدرتها المستمرة على قيادة الحوار، وترسيخ الاستقرار، وصياغة المعادلات الإقليمية بمنطق العقل والمسؤولية، فكما كانت مصر عبر تاريخها جسرًا بين الشرق والغرب، ومصدر توازن فى لحظات التصدع، فإنها اليوم، من على أرض السلام، تجدد رسالتها للعالم بأن صوت الحكمة لا يزال هو الأقدر على صناعة الغد الآمن.
ومثلت قمة شرم الشيخ تتويجًا طبيعيًا للجهود الدبلوماسية المصرية المكثفة التى لم تهدأ منذ اندلاع العدوان الإسرائيلى على قطاع غزة، فمنذ اللحظة الأولى، تحركت القاهرة مع الوسطاء فى جميع الاتجاهات الإقليمية والدولية، واضعين على عاتقهم مسؤولية الدفاع عن الإنسان والكرامة الوطنية، وساعيين بكل الوسائل إلى وقف نزيف الدم وإنهاء المأساة الإنسانية التى يعيشها الشعب الفلسطيني.
وفى خضم تلك التحركات، واجهت الدولة المصرية ضغوطًا غير مسبوقة من قوى دولية وإقليمية لإجبارها على القبول بمخططات تهدف إلى تهجير الفلسطينيين قسرًا إلى داخل الأراضى المصرية فى شمال سيناء، فى محاولة لتمرير ما سمى بـالحل الإنساني، غير أن الموقف المصرى كان واضحًا وحاسمًا التهجير إلى سيناء خط أحمر، لا يمكن تجاوزه أو المساس به، لأنه يمثل تهديدًا مباشرًا للأمن القومى المصري، ويعد مقدمة خطيرة لتصفية القضية الفلسطينية تحت ستار المساعدات الإنسانية، وتحت غطاء إنسانى زائف.
ولقد أثبتت القاهرة فى تلك اللحظة الحساسة قدرتها على الجمع بين الصلابة والحكمة؛ فبينما تمسكت بلغة الدبلوماسية الهادئة والعقلانية فى مخاطبة العالم، لم تتردد فى إظهار وجه الدبلوماسية الخشنة والحازمة حين حاول البعض تجاوز خطوط السيادة المصرية أو المساس بمصالحها العليا، حيث أدركت مصر أن الصمت أمام العبث بمقدرات الأمن الإقليمى يفتح الباب أمام فوضى لا تحمد عقباها، وأن الدفاع عن حدود الوطن يبدأ من حماية الهوية الفلسطينية ورفض أى مساس بسلامة الجوار الجغرافى والسياسي.
ويعد من أهم نتائج قمة شرم الشيخ كان اتفاق غزة التاريخى الذى جاء من المأساة إلى الأمل، وبعد مفاوضات شاقة قادتها مصر بدعم عربى ودولي، وشمل الاتفاق وقف لإطلاق النار، وخطة شاملة لإعادة بناء غزة وإنهاء معاناة أهلها، مع ضمانات دولية تحمى الاتفاق وتضمن تنفيذه، وأضفت مشاركة أكثر من عشرين زعيمًا فى مراسم إعلان الاتفاق أضفت عليه شرعية دولية غير مسبوقة، وجعلت منه نقطة تحول فى مسار الصراع الفلسطينى الإسرائيلي، فالسلام الذى ينطلق من شرم الشيخ سلامًا نابعًا من إرادة سياسية جماعية ترى أن أمن المنطقة يتحقق بإنهاء الاحتلال وتمكين الشعب الفلسطينى من حقوقه المشروعة، وقد استطاعت مصر ودول الوساطة، من خلال هذا الاتفاق نقل مركز الثقل السياسى من ميادين الحرب إلى طاولة الحوار، وأن تثبت أن العمل الدبلوماسى المنضبط يمكنه أن يصنع ما تعجز عنه القوة المسلحة، وهكذا تحولت مأساة غزة إلى فرصة لإحياء فكرة السلام القائم على العدل والكرامة الإنسانية.
ويستوقف المراقبون الموقف المصرى فى هذه الأزمة لما اتسم به من صلابة فى المبادئ ومرونة فى الوسائل، فمصر لم تكتف بإدانة العدوان، بل تصدت ميدانيًا لمخططات تهجير الفلسطينيين، ورفضت تحويل مأساة إنسانية إلى صفقة سياسية، وهذا الثبات فى الموقف يعكس رؤية استراتيجية متكاملة، تدرك أن التهجير القسرى يهدد فلسطين ويفتح الباب أمام مشاريع تفكيك الدول وإعادة هندسة المنطقة على أسس غير مستقرة، ومن ثم جاءت كلمات القيادة المصرية واضحة لا تفريط فى الأرض، ولا تساهل مع من يعبث بأمن الوطن أو بسيادة الدول، بجانب تقديم مبادرة واعية لفتح آفاق الحلول السياسية، والتأكيد على أن مصر لا تدافع عن حدودها فقط، بل عن المنظومة الأخلاقية للأمن الإقليمي.
ومثلت قمة شرم الشيخ عودة حقيقية للعالم العربى إلى المسرح الدولى بعد سنوات من الانكفاء، وأظهرت أن العرب قادرون على التحدث بصوت واحد حين يتعلق الأمر بالكرامة الإنسانية والقضايا المصيرية، كما عبرت القمة عن توافق عربى ودولى نادر، حيث اجتمع القادة العرب مع نظرائهم فى أوروبا وأمريكا فى إطار من التفاهم حول مبادئ السلام العادل، ولم يكن ذلك ليتحقق لولا الثقة الدولية فى القيادة المصرية التى أثبتت قدرتها على إدارة الملفات المعقدة بأعلى درجات المهنية والاتزان.
كما شكلت القمة حدثًا مفصليًا فى إعادة تعريف أولويات الأمن الدولي، حيث انطلق من أرض الشرق الأوسط مشروع سلام حقيقى يعيد التوازن إلى منظومة العلاقات الدولية، ويمنح الشعوب العربية فرصة جديدة للحياة فى ظل الأمن والاستقرار، كما أعادت القمة إحياء مفهوم الأمن القومى العربى المتكامل، بعد أن أدركت الدول المشاركة أن أمن مصر لا ينفصل عن أمن فلسطين، وأن أبادة وسقوط غزة يعنى اهتزاز المنطقة بأسرها، هذا الإدراك الجماعى أسس لمرحلة جديدة من التعاون العربى القائم على وحدة المصير والمسؤولية المشتركة.
ومن أرض السلام شرم الشيخ، بعثت مصر برسالة للعالم مفادها أن السلام قوة أخلاقية نابعة من الإرادة والسيادة، وأن الكرامة الوطنية هى الركيزة الصلبة للأمن والاستقرار، وهكذا، استطاعت القاهرة أن تصنع حدثًا استثنائيًا سيظل علامة مضيئة فى التاريخ العربى الحديث، ودليلًا على أن القيادة الواعية قادرة على بناء سلام يصون الإنسان ويحفظ كرامة الأوطان.