
استيقظت هذا الصباح على منشور بسيط، لكنه كان كجرس يُوقظ القلب قبل الأذن، كتبه أستاذنا القدير محمد سيف الناقد الرياضي بالأهرام عن المال والتاريخ، فحرك بداخلي شيئًا أعمق من الحنين.. شيئًا يشبه الوجع الجميل.. قرأته، فأغمضت عيني قليلًا، ثم قلت في نفسي: نعم، ما زال هناك من يسمع صوت مصر.
مصر يا صديقي ليست دولة تُقاس بعدد سكانها، ولا بتاريخ ميلادها على خرائط الأمم.. مصر فكرة تتجاوز الزمان والمكان، تسكن في ذاكرة الكون كما تسكن الأغنية في حنجرة عاشقها.
مصر ليست ماضيًا نرويه، بل حاضرًا نعيشه دون أن ندرك أننا نعيش المعجزة كل يوم.. فتّش في العالم كما شئت.. خذ ما شئت من المال، واشترِ به بساط الريح، طر فوق القارات، وابحث عن بلد أنجبت طه حسين وهو ضرير، فأنار عقول المبصرين.. عن بلد خرج منها العقّاد دون شهادة، فخرّ أمامه الفلاسفة احترامًا.
عن بلد كتبت نجيب محفوظ فصارت الشوارع رواية، والناس أبطالًا خالدين.. هل وجدت مثلها؟ لا تبحث أكثر.
وإن أردت فخذ خاتم سليمان، ومر على أوتار العالم كلها، ثم قف قليلًا عند صوت سيد درويش وهو يوقظ الأمة بلحن، أو عند عبد الوهاب وهو ينسج من النغم مجدًا، أو عند بليغ حمدي وهو يجعل الحزن جميلًا، والمجد ممكنًا.. هل سمعت في الدنيا موسيقى تشبه مصر؟
وإن وجدت مصباح علاء الدين فاسأله عن الشعراء الذين صاروا جزءًا من ضمير الناس:
عن شوقي وهو ينحت الكلمة تاجًا،
عن رامي وهو يجعل الحب مدرسة،
عن الأبنودي وهو يُغني للناس بلغتهم،
عن جويدة وهو يكتب بمداد القلب لا القلم.
هل وجدت مثل مصر تكتب الشعر بدمها؟
ابحث في مختبرات العلم، ستجد مجدي يعقوب يداوي القلوب بيدٍ ناعمةٍ كالسلام،
وأحمد زويل يسبق الزمن ليُهدي مصر جائزة نوبل، كمن يرد جميلها ببعض ما يستطيع.
ابحث في الفنون.. في صوت أم كلثوم الذي يتجاوز المقامات ليبلغ السماء،
في نغمة عبد الحليم التي لا تشيخ،
في طلة فؤاد المهندس الذي جعل الضحك تربية راقية، في دمعة أحمد زكي التي علمتنا معنى الإحساس، في زعامة عادل إمام للكوميديا.. هل رأيت شعبًا يصنع نجومه بهذه الفطرة؟
ابحث في الإيمان.. في خشوع الحصري، وجلال عبد الباسط، في رهبة المنشاوي، وفي نور الشعراوي، في علم الطيب ووقار أحمد عمر هاشم.. تجد أن مصر وحدها جعلت القرآن يُتلى وكأنه يُولد من حنجرة النيل.
يا من تستقوى بالمال وأشياء أخرى، ليست مصر بلدًا فحسب، بل صوت سماوي يمر عبر الأجيال، لا يشبهه أحد..
كل ما فيها حي حتى وإن غاب أصحابه.
فالذي قال يومًا “مصر أم الدنيا” لم يكن يبالغ، بل كان يصف حقيقة لا تُكذبها الأيام.
إنها الأم التي تعلم، وتغفر، وتحتضن أبناءها مهما جار الزمن.. أم الدنيا لأنها أنجبت الدنيا، وعلمتها النطق، والكتابة، والموسيقى، والإيمان، والعزة.
فإذا سألتني بعد كل هذا: هل هناك مثل مصر؟ سأبتسم وأقول: لا تبحث يا صديقي، فطريقك مسدود يا ولدي.. فمصر ليست مما يُشبه.. إنها ما يُشبهه الآخرون.
للتواصل مع الكاتب الصحفي مؤمن الجندي اضغط هنا
