
منذ زمن طويل، تسكن فينا عقدة اسمها “الخواجة”، نعشق كل ما يأتي من الخارج، نُسبغ عليه هالة من القداسة، ونمنحه من الإعجاب ما لا نعطيه لأبناء جلدتنا.. في المقهى، في الشارع، في الإعلانات، حتى في حديث شباب الجيل الجديد الذي صار يخلط كلمتين عربي وثلاثة إنجليزي، كأن اللغة الأم صارت عيبًا أو ماضيًا يجب التخلص منه.
أتذكر جيدًا عام 2008 حين كنت أمتلك متجرًا صغيرًا في شرم الشيخ لبيع الساعات والنظارات الأصلية.. كان عمري عشرين عامًا، وكنت أراقب السياح الروس يرفضون التحدث بالإنجليزية، يصرون على لغتهم وكأنهم يحملون وطنهم في لسانهم؛ وقتها فقط أدركت أن الثقة بالهوية لا تحتاج ترجمة، وأن من لا يفخر بلغته لا يملك ما يقدمه للعالم.
لكن ما زال السؤال يؤرقني: لماذا لا نؤمن بأن ما هو “مصري” يمكن أن يكون عظيمًا؟ لماذا نظل نبحث عن المجد في الخارج بينما المجد نفسه يسكن بيننا؟
نعم من ريفنا، خرج فتى من نجريج، لم يخرج على أكتاف أحد، ولم يتكئ على شهرة ولا وساطة.. خرج بعرقه، بحلمه، بجلده، بخيله العربي الأصيل.
محمد صلاح… ابن هذا الوطن الذي لم يطلب شهادة من أوروبا ليصدق أنه موهوب، ورغم أنني هاجمته في مقالي الذي حمل عنوان صلاح في حضرة البوذا لأن الموقف من وجهة نظري يستدعي ذلك، أدافع اليوم عنه لأنه حقه.. وأرى “الخواجة” بالبلدي جاي عليه! لذلك علينا الدعم والمساندة.
صلاح وقف هناك، في ملاعب خضراء لا تعرف إلا لغة القوة، ففرض عليها احترامه دون أن يتخلى عن لهجته أو جذوره.
الغرب الذي ما دام قدسناه، وقف له تقديرًا، صفق له، وهتف باسمه، بينما بيننا من ما زال يبحث عن أي لحظة سقوط ليقول: “انتهى”.
لكنهم لا يعرفون أن لكل جواد كبوة، وأن خيول هذا البلد لا تسقط، بل تستريح قليلًا قبل أن تعود تركض في ميادين المجد.
صلاح ليس مجرد لاعب، بل حكاية وطنٍ استطاع أن يقول للعالم: “نحن لسنا أقل منكم”.
هو الدليل على أن المصري حين يؤمن بنفسه لا يحتاج خواجة ليمدحه ولا شهادة أجنبية لتزكيه، يكفيه أنه من ترابٍ اسمه مصر.
فلنتعلم من محمد صلاح أن الغرب لا يقدس إلا من يفرض نفسه، وأن المجد لا يُشترى من أوروبا، بل يُزرع في قرية صغيرة، ويسقى بالتعب، ويكبر في صمت، حتى يملأ الدنيا ضوءًا.
فيا من أصابتكم عقدة الخواجة، انظروا إلى صلاح جيدًا.. لعلنا نتعلم منه أن نؤمن بأنفسنا قبل أن نؤمن بغيرنا.
للتواصل مع الكاتب الصحفي مؤمن الجندي اضغط هنا
