
في صباحٍ عادي، يختلط فيه صوت عربات القمامة بضجيج المدينة، كان محمد سعد الدمنهوري، عامل النظافة البسيط، يبدأ يومه كعادته دون أن يدري أن الله يخبّئ له في هذا اليوم اختبارًا من نوع خاص، واختبارًا لا ينجح فيه إلا أصحاب القلوب الطاهرة.
محمد، أحد عمال الوحدة المحلية بمركز حوش عيسى بمحافظة البحيرة، رجل بسيط، لا يعرف سوى الصبر والعمل،
يبدأ يومه قبل أن تشرق الشمس، يربط حزامه القديم حول خصره، يحمل أدواته، ويركب السيارة المخصصة لجمع القمامة، يتنقل من حي إلى آخر في هدوء، لا يشكو، ولا يطلب شيئًا من أحد.
لكن صباح ذلك اليوم في عزبة أبو حبور كان مختلفًا تمامًا
بعد ساعات من العمل المتواصل، وصلت السيارة إلى مقر التفريغ المخصص، وبدأ محمد كعادته يفرغ صناديق القمامة واحدًا تلو الآخر.
وبينما كانت يداه تعملان بآلية اعتادها منذ سنوات، لمحت عيناه شيئًا لامعًا داخل أحد الصناديق المعدنية،
اقترب أكثر،صندوق صغير مغلق بإحكام، عليه آثار أتربة، لكنه يلمع بطريقة غريبة.
يقول محمد: “كنت فاكره علبة تجميل أو لعبة، أو دهب صيني، بس قلت خليني أحطه على جنب، يمكن يكون حاجة مهمة.”
رفع الصندوق ووضعه بجواره داخل السيارة، ولم يلمسه بعد ذلك، بعد لحظات، أنهى العمل كالمعتاد، وأبلغ رؤسائه في الوحدة المحلية بأنه وجد صندوقًا غريبًا أثناء التفريغ، وتركه في مكان آمن إلى حين معرفة صاحبه.
لم تمر دقائق حتى رن هاتف السائق، وصوت متوتر من الطرف الآخر قال بقلق: “يا جماعة العربية اللي كانت في عزبة أبو حبور… رجعوها فورًا، في حاجات غالية جدًا راحت في الزبالة!”
“دهب زوجتين.. ونص مليون جنيه تعب السنين”
عاد محمد والسائق بسرعة إلى المكان،
في انتظارهم، كان يقف عدد من الأهالي في حالة ذهول وقلق، والدموع في عيون بعض النساء.
اقترب محمد منهم وسأل بهدوء: “فيه إيه يا جماعة؟ إيه اللي ضاع؟”
ردّ رجل كبير بصوت مبحوح: “دهب زوجتين، والدهب كله اترمى بالغلط في القمامة، نص مليون جنيه تعب عمر راح في الزبالة.”
ابتسم محمد بخجل، ومدّ يده نحو الصندوق الصغير الذي وجده أثناء التفريغ وقال: “متقلقوش يمكن ربنا بعتهولي أرجعه ليكم، الصندوق ده اللي بتدوروا عليه؟”
لم يصدقوا أعينهم، فتح الرجل الصندوق، وإذا بالدهب يلمع أمام الجميع.
سقطت الدموع، وتعالت الزغاريد، وانهال الأهالي على محمد بالأحضان والدعوات.
قال أحدهم وهو يبكي: “لو كنت خبيته، محدش كان هيعرف، بس أنت راجل ابن ناس، أمين.”
“تكريم على الأمانة.. وفرحة في السماء”
انتشرت القصة بسرعة في حوش عيسى،
وفي اليوم التالي، قرر أحمد حمزة، رئيس مركز المدينة، تكريم العامل الأمين محمد سعد الدمنهوري بمكتبه، هو وأهلي القرية، تقديرًا لأمانته وإنسانيته.
وقف محمد أمام الجميع، خجولًا كعادته، يرتدي زيّه الأزرق البسيط، وقال بصوت مفعم بالإيمان: “مكنتش أعرف إن الدهب حقيقي، بس لما شفت الختم، قلت خلاص ده أمانة لازم تترد، اللي مش بتاعك ما تفرحش بيه، حتى لو كنت محتاج.”
“ابني عامل 14 عملية.. لكن الأمانة أهم من الدنيا كلها”
محمد أب لشاب في السابعة عشرة من عمره، خضع لأكثر من 14 عملية جراحية على مدار السنوات الماضية، وما زال يحتاج إلى عملية أخرى قريبًا، ظروفه صعبة، ومرتبه بسيط، لكنه لم يفكر ولو للحظة أن يحتفظ بالذهب.
يقول بصوتٍ يملؤه الرضا: “ابني محتاج علاج، بس ربنا هو اللي بيرزق، يمكن لما رجّعت الدهب، ربنا يردلي شفاء ابني، حسّيت ساعتها إني عملت حاجة ترضي ربنا وتنقذ بيوت كانت هتتخرب.”
“خطوة نحو الجنة”
قصة محمد أصبحت حديث الأهالي، ومصدر فخر لكل من عرفه، عامل نظافة بسيط لا يملك إلا قوته اليومي، لكنه يملك قلبًا أكبر من أي ثروة.
رجل علّم الجميع درسًا في الأمانة والشرف، وذكّرنا بأن الخير لا يزال يسكن في القلوب الطيبة.
محمد أنهى حديثه بكلمات تليق برجل من هذا الطراز النادر: “الدهب كان اختبار… وأنا اخترت الجنة.”

