
أثار قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بدفع رواتب الجنود الأمريكيين رغم استمرار الإغلاق الحكومي الفيدرالي حالة من الجدل الواسع في الأوساط السياسية والقانونية الأمريكية.
ونقلت صحيفة “الجارديان” البريطانية عن خبراء تحذيرهم من أن هذه الخطوة تمثل سابقة خطيرة تهدد التوازن الدستوري بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، معتبرين أنها محاولة جديدة من الرئيس لنقل سلطة الإنفاق من الكونجرس إلى البيت الأبيض، وهو ما وصفوه بأنه انتهاك مباشر لمبدأ الفصل بين السلطات.
إغلاق حكومي غير مسبوق يشلّ المؤسسات الأمريكية
تعود خلفية الأزمة إلى فشل الكونجرس الأمريكي في تمرير قانون التمويل الفيدرالي قبل نهاية سبتمبر الماضي، ما أدى إلى إغلاق الحكومة في مطلع أكتوبر.
وبموجب هذا الإغلاق، تم تسريح أكثر من 700 ألف موظف فيدرالي، بينما اضطر مئات الآلاف من العاملين في قطاعات الأمن والدفاع والخدمات الأساسية إلى مواصلة عملهم من دون الحصول على رواتبهم.
ويُعد هذا الإغلاق من أطول وأعقد الأزمات السياسية التي تواجه الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة، حيث تتشابك فيه الخلافات الحزبية بين الجمهوريين والديمقراطيين بشأن أولويات الإنفاق العام، خصوصًا في ملفات الدفاع والمساعدات الاجتماعية.
ترامب يتحدى الكونجرس: “لن أترك جنودنا دون رواتب”
في منتصف أكتوبر، فاجأ الرئيس ترامب الرأي العام بإعلان قرار دفع رواتب الجنود الأمريكيين من أموال وزارة الدفاع (البنتاجون)، رغم عدم وجود تفويض قانوني من الكونجرس يتيح له ذلك.
وأكد ترامب في تصريحات صحفية أن قراره يهدف إلى حماية أسر الجنود من الأضرار الاقتصادية، قائلًا: “لن أسمح بتجويع رجالنا ونسائنا في الخدمة بسبب خلافات الكونجرس”.
إلا أن هذا القرار أثار مخاوف قانونية ودستورية واسعة، إذ اعتبره بعض الخبراء تجاوزًا صريحًا لصلاحيات الرئيس التنفيذية، ومحاولة لإعادة توزيع الموارد العامة دون موافقة تشريعية.
الخبراء يحذرون: “سابقة تهدد سلطة الكونجرس”
قال فيل والاش، الزميل البارز في معهد أمريكان إنتربرايز المحافظ، إن ما فعله ترامب “يتجاوز الحدود القانونية بشكل واضح”، مضيفًا:
“أتفق مع من يرون أنه لا يوجد مبرر قانوني وجيه لنقل الأموال بهذه الطريقة. إنها سابقة تمس جوهر صلاحيات الكونجرس في الإنفاق العام.”
وأوضح والاش أن غياب التفويض التشريعي يجعل القرار عرضة للطعن، لكنه أشار إلى أن أحدًا لا يريد أن يُتهم بأنه ضد رواتب القوات المسلحة، وهو ما يجعل الرئيس محصنًا سياسيًا في هذه الحالة.
إعادة تخصيص 8 مليارات دولار من أموال البنتاجون
وبحسب ما نقلته صحيفة الجارديان، فإن الرئيس ترامب أعاد تخصيص نحو 8 مليارات دولار من أموال وزارة الدفاع المخصصة للبحث والتطوير، لاستخدامها في تمويل رواتب العسكريين.
ووصف بوبي كوجان، المسؤول السابق في مكتب الإدارة والميزانية بالبيت الأبيض، هذه الخطوة بأنها “مخالفة للقانون الفيدرالي تمامًا”، موضحًا أن القانون الأمريكي يمنع استخدام أموال مخصصة لغرض معين في تمويل غرض آخر دون موافقة الكونجرس.
وقال كوجان: “إذا أنفقت الأموال على غرض غير مصرح به، فأنت في ورطة. وإذا أنفقت أموالًا لا تملكها قانونيًا، فأنت في ورطة أكبر.”
تبرع غامض يثير تساؤلات إضافية
في تطور مفاجئ، أعلن ترامب لاحقًا أن “صديقًا” قدم تبرعًا بقيمة 130 مليون دولار للمساعدة في دفع رواتب أفراد الجيش خلال فترة الإغلاق.
وكشفت صحيفة نيويورك تايمز لاحقًا أن هذا المتبرع هو الملياردير تيموثي ميلون، أحد أبرز مؤيدي الرئيس الأمريكي.
وأكد المتحدث باسم البنتاجون، شون بارنيل، أن الوزارة قبلت التبرع “بموجب صلاحياتها العامة لقبول الهدايا”، مشيرًا إلى أنه “قُدم بشرط استخدامه لتعويض تكلفة الرواتب والمزايا للعسكريين”.
إلا أن هذه الخطوة أثارت مخاوف جديدة بشأن الشفافية وتضارب المصالح، حيث اعتبرها بعض المراقبين خلطًا خطيرًا بين العمل الحكومي والتمويل الخاص.
خلفيات قانونية: سوابق محدودة وسياقات مختلفة
يشير محللون إلى أن رواتب القوات المسلحة خلال فترات الإغلاق السابقة كانت تُدفع فقط عندما يقر الكونجرس مشاريع قوانين خاصة أو يوافق على تمويل وزارة الدفاع مسبقًا، وهو ما لم يحدث في هذه الأزمة.
وبالتالي، فإن تصرف ترامب هذه المرة يمثل تجاوزًا واضحًا للسياق القانوني التقليدي، حيث تصرف منفردًا دون غطاء تشريعي.
ويحذر الخبراء من أن ترك هذه السابقة دون مساءلة قد يفتح الباب أمام رؤساء مستقبليين لتمويل قرارات مثيرة للجدل، مثل نشر الجيش داخل الأراضي الأمريكية أو تمويل سياسات داخلية دون الرجوع للكونجرس.
يرى المراقبون أن هذه الخطوة قد تُعيد إحياء الجدل الدستوري حول حدود السلطة التنفيذية في الولايات المتحدة، خصوصًا في ظل التوتر المستمر بين البيت الأبيض والكونجرس بشأن ملفات الأمن القومي والإنفاق. ويخشى البعض أن يكون ما فعله ترامب جزءًا من استراتيجية سياسية لتقوية صورته أمام الناخبين العسكريين قبل الانتخابات المقبلة، خصوصًا أن قطاع الدفاع يُعد من أكثر القطاعات تأييدًا له سياسيًا.
ومع ذلك، فإن هذا القرار قد يُشعل نزاعًا قضائيًا أو تشريعيًا طويل المدى، يعيد تعريف العلاقة بين الرئاسة والكونجرس فيما يتعلق بالتحكم في الأموال العامة.
